3- إن الله يطلب من الناس شفاعة الأبرار فيهم.
يطلب ذلك بنفسه ويقبله ويفسح له مجالاً لكي يحدث. وسأضرب بعض أمثلة لهذه الشفاعات التي قبلها الله:
أ)* قصة أبينا إبراهيم وأبيمالك الملك:-
لقد أخطأ أبيمالك وأخذ سارة زوجة إبراهيم، وضمها إلي قصره وفعل ذلك بسلامة قلب، لأن إبراهيم كان قد قال عنها أنا أخته. فظهر الرب لأبيمالك في حلم، وأنذره بالموت. ثم قال له "فَالآنَ رُدَّ امْرَأَةَ الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، فَيُصَلِّيَ لأَجْلِكَ فَتَحْيَا" (سفر التكوين 20: 7).
St-Takla.org Image: Saint Rebecca and Her Five Children, Refka
صورة في موقع الأنبا تكلا: القديسة رفقة وأولادها الخمسة
كان يستطيع أن يغفر للرجل، بمجرد رده للمرأه إلي زوجها، ولكنه اشترط للمغفرة، أن يصلي إبراهيم لأجله، فيحيا. وهكذا نري أن الله اشترط وطلب شفاعة إبراهيم في أبيمالك.
ب)* قصة أيوب الصديق وأصحابه الثلاثة (أي42).
بنفس الطريقة أشترط الرب شفاعة أيوب الصديق في أصحابه الثلاثة وصلاته من أجلهم لكي يغفر الرب لهم. وفي هذا يقول الكتاب (إن الرب قال لأليفاز التيماني قد أحتمي غضبي عليك وعلي صاحبيك. والآن فخذوا لأنفسكم سبعة ثيران وسبعة كباش، واذهبوا إلي عبدي أيوب واصعدوا محرقة. وعبدي أيوب يصلي من أجلكم، لأني أرفع وجهه لئلا أصنع معكم حسب حماقتكم" (أي42: 7،
.
في كلا الحادثين، الله يكلم الشخص بنفسه، ولكنه لا يعطيه غفراناً مباشراً، وإنما يشترط صلاة القديس من أجله، لكي ينال المخطئ هذا الغفران، ولكي يرفع الله وجه هذا القديس ويعطيه كرامة أمام الناس. ويقبل الله هذه الوساطة، بل يطلبها.
ج) شفاعة إبراهيم في سادوم:
كان يمكن لله أن يعاقب سادوم، دون تدخل أبينا إبراهيم في الموضوع. وإبراهيم لم يتدخل من نفسه، وإنما الرب هو الذي عرض عليه الأمر وأدخله فيه، وأعطاه فرصة للتشفع في هؤلاء الناس، وقبل شفاعته. وسمح أن تسجل لنا هذه الحادثة، لكي يرفع وجه إبراهيم أمام العالم كله، ويرينا الله كيف يكرم قديسيه.. وفي هذا قال الكتاب: "فقال الرب هل أخفي عن إبراهيم ما أنا أفعله؟!" (تك17:18).
وعرض الرب موضوع سادوم علي إبراهيم وأعطاه فرصة أن يتشفع فيها، عسي أن يوجد في المدينة خمسون، أو 45، أو 40، أو 30، أو 20، أو 10، فلا يهلك الرب المدينة من أجل هؤلاء.
ومجرد أن الرب لا يهلك المدينة من أجل هؤلاء الأبرار الذين في المدينة لا يعطينا فقط مجرد فكرة عن كرامة إبراهيم أمام الرب. إنما أيضاً كرامة هؤلاء الأبرار أمام الله.
"فقال الرب: إن وجدت في سادوم خمسين باراً.. فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم".. "لا أفعل من أجل الأربعين..".. "لا أهلك من أجل العشرين".. "لا أهلكهم من أجل العشرة" (تك18: 26 إلي 32).
إن عبارة "من أجل.." لها قيمتها اللاهوتية الدالة علي إنقاذ الله لأشخاص، من أجل آخرين وتعطي دلالة واضحة علي وساطة الأبرار من أجل الخطاة، وقبول الله هذه الوساطة، حتي أن يطلب هؤلاء وأولئك..
د) شفاعة موسى في الشعب:
أراد الله أن يهلك الشعب لعبادة العجل الذهبي. ولكنه لم يفعل مباشرة، وإنما عرض الأمر علي موسى النبي، وأعطاه فرصة للشفاعة فيهم وقبل شفاعته.
وكما قال له إبراهيم "حاشاك يا رب"، قال له موسى "ارجع يا رب عن حمو غضبك، وأندم علي الشر بشعبك اذكر إبراهيم واسحق وإسرائيل عبيدك الذين حلفت لهم.." ويقول الكتاب بعد هذا "فندم الرب على الشر الذى قال أنه سيفعله بشعبه" (خر32: 7-14).
هـ) هذه أمثلة صلوات أحياء من أجل أحياء. أما الذين انتقلوا فلهم مكانة أكبر لدرجة أن الله كان يرحم الناس من أجلهم حتي دون أن يصلوا. فكم بالأولي إن صلوا لأجل أحد:
ومن أمثلة ذلك ما فعله الرب من أعمال الأشفاق والرحمة من أجل داود عبده بسبب خطية سليمان (اقرأ مقالاً آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). قرر الله يمزق مملكته. ولكنه يقول له عن تقسيم المملكة.
"إلا أنني لا أفعل ذلك في أيامك من أجل داود أبيك، بل من يد ابنك أمزقها. علي أني لا أمزق منك الملكة كلها، بل أعطي سبطاً واحداً لابنك، لأجل داود عبدي، ولأجل أورشليم التي اخترته") (1مل11: 12، 13). ويكرر الرب نفس الكلام في حديثه مع يربعام "هأنذا أمزق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباط. ويكون سبط واحد من أجل داود عبدي، ومن أجل أورشليم التي اخترتها" (1مل11: 31، 32)…
"ولا آخذ كل المملكة من يده، بل أصيره رئيسا كل أيام حياته، لأجل داود عبدي، الذى اخترته، الذى حفظ وصاياى وفرائضى (1 مل 11 : 34 ).
الله يكرر نفس العبارة ثلاث مرات فى اصحاح واحد "من أجل داود عبدى" لهذا قال المرتل "من أجل داود عبدك لا ترد وجهك عن مسيحك" (مز10:132). إن كنت هكذا مكانة داود عند الرب، فكم بالأكثر تكون مكانة العذراء، والملائكة ومكانة يوحنا المعمدان أعظم من ولدته النساء. وكم تكون مكانة الشهداء الذين تعذبوا وذاقوا الموت من أجل الرب.
لذلك، مادمنا نطلب صلوات رفقائنا علي الأرض، فلماذا لا نطلب صلوات أولئك الذين "يضيئون كالكواكب إلي أبد الدهور" (دا3:12)؟! ولماذا لا نطلب صلوات أولئك الذين "جاهدوا الجهاد الحسن، وأكملوا السعي وحفظوا الإيمان" (2تي7:4). وأن كانت الشفاعة – وهي صلاة – تعتبر وساطة، وإن كانت كل وساطة غير مقبولة، تكون إذن كل صلاة إنسان من أجل إنسان آخر هي أيضاً وساطة مرفوضة إذ لنا وسيط واحد..!
ويرفض وساطات الصلاة، يكون الرسول إذن قد أخطأ (حاشا) حينما قال "صلوا بعضكم لأجل بعض" (يع16:5)، علي اعتبار أن العلاقة بين الإنسان والله، علاقة مباشرة، وهي في ظل الحب الإلهي لا تحتاج إلي صلاة من أحد..!
وبالتالي تكون كل الصلوات من أجل الآخرين التي وردت في الكتاب لا معني لها وضد الحب الإلهي!!
لأن الله يحب الناس، وهو غير محتاج إلي الآخرين يصلون عن أولاده ويذكرونه برعايته الأبوية لهم وبحبه الأبوي!
ويكون هؤلاء أيضاً قد أساءوا فهم القصد الإلهي، حينما طلب الله من أبيمالك أن يصلي عنه إبراهيم (تك7:20). وحينما طلب من أصحاب أيوب أن يصلي عنهم أيوب ( أي 8:42).
إن صلوات البشر بعضهم لأجل بعض (منتقلين ومجاهدين) دليل علي المحبة المتبادلة بين البشر ودليل علي إيمان البشر الأحياء بأن الذين انتقلوا ما يزالون أحياء يقبل الله صلواتهم، دليل علي إكرام الله لقديسيه.
من أجل هذا سمح الله بهذه الشفاعات، لفائدة البشر. وهذه الشفاعة أقامت جسراً ممتداً بين سكان السماء وسكان الأرض. ولم تعد السماء شيئاً مجهولاً مخفياً في نظر الناس. وأصبح للناس إيمان بالأرواح وعملها ومحبتها.